التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
لقد أعلنت جمهورية البندقية الحرب الشاملة على الدولة العثمانية في يوم 28 يوليو 1463م، ولم يكن هناك أي تباطؤ في دراسة الموقف، ولا تبعات الحرب.
كانت الحملة الهمايونيَّة على البوسنة ناجحةً بكلِّ المقاييس؛ فقد استطاع الفاتح في هذه الحملة -وفي وقتٍ قياسي- أن يفتح معظم البوسنة، وأن يُجبر أمير الهرسك على دفع الجزية له، ولم تكن هناك خسائر ذات قيمة، وقُتِل ملك البوسنة في الصدام، وتحقَّق كلُّ ذلك في أقلَّ من شهرين؛ حيث دخل الفاتح البوسنة في منتصف مايو، وعاد منها إلى إسطنبول في أواخر يونيو 1463م[1].
قامت الدنيا في أوروبا ولم تقعد!
كان فتح البوسنة نذير خطرٍ شديد، ووصلت الأخبار إلى البابا بيوس الثاني فتألَّم بشدَّة، لكنَّه وجدها فرصةً لإحياء فكرة الحروب الصليبية من جديد، وقام من فوره بإرسال خطابات إلى أمراء إيطاليا وأوروبا ينعي لهم سقوط البوسنة، ويستحثُّهم على دعم الحملة الصليبيَّة، ولكن واقع الأمر أنَّ أثر البابا في أمراء إيطاليا وأوروبا كان ضعيفًا للغاية[2]، ومِنْ ثَمَّ لم يستجب له إلَّا أولئك الذين يُعانون بشكلٍ مباشرٍ من توسُّعات الدولة العثمانية، ويأتي في مقدِّمتهم جمهوريَّة البندقيَّة، وبعدها المجر، وألبانيا.
كان البابا بيوس الثاني يُدرك أهميَّة البندقيَّة في الصراع مع الدولة العثمانية، ولذلك لم يكتفِ بإرسال خطابٍ لهم؛ إنَّما أرسل مبعوثًا رفيعًا هو الكاردينال بيساريون Bessarion[3]، وأعتقد أنَّه اختار هذا المبعوث تحديدًا لأنَّ أصوله يونانيَّة، وكان أرثوذكسيًّا ثم تحوَّل إلى الكاثوليكيَّة[4]، ولعلَّه بهذه الخلفيَّة يكون أقدر الناس على إقناع البنادقة بأهميَّة اليونان، واحتمال ضياعها منهم إن هم تقاعسوا في النجدة الحربيَّة، ولقد جاء بيساريون إلى البندقيَّة فوجدها مستعدَّةً تمامًا، على الأقل من الناحية النفسيَّة، للقيام بحربٍ ضدَّ الدولة العثمانية؛ فالجمهوريَّة مشحونةٌ ضدَّ العثمانيِّين لأكثر من سبب، فهناك ضَيَاع أرجوس في أبريل 1463م، وهناك ضَيَاع البوسنة في مايو ويونيو 1463م، وهناك احتمال السيطرة على باقي مدن المورة اليونانيَّة التي تتبع البندقيَّة، وهذا يُمثِّل خسارةً فادحةً للجمهوريَّة، وكان البنادقة يرون أنَّ السيطرة الكاملة على المورة ستدرُّ عليهم أرباحًا تزيد على ثلاثمائة ألف دوكا ذهبيَّة كلَّ عام[5]؛ فالخسارة الاقتصادية ضخمة، فضلًا عن الخسائر العسكريَّة والاستراتيجيَّة. يُضاف إلى هذا أنَّ رئاسة الجمهوريَّة في البندقيَّة أُعْطِيت في عام 1462م -أي قبل هذه الأحداث بعام- إلى كريستوفورو مورو Cristoforo Moro وهو من السياسيِّين المتديِّنين، وكان على وِفاقٍ مع البابا بيوس الثاني، على عكس رئيس الجمهوريَّة السابق له[6]، فكانت كلُّ هذه الملابسات تُؤكِّد نجاح مهمَّة الكاردينال بيساريون مع مجلس الشيوخ البندقي.
لم يكن النجاح عاديًّا!
لقد أعلنت جمهوريَّة البندقيَّة الحرب الشاملة على الدولة العثمانية في يوم 28 يوليو 1463م[7]، ولم يكن هناك أيُّ تباطؤٍ في دراسة الموقف، ولا تبعات الحرب؛ إذ أخرج البنادقة أسطولهم فور أخذ قرار الحرب، حتى لقد رأيناه في المياه اليونانيَّة في أقلَّ من أسبوعين، ممَّا يعني أنَّه تحرَّك من البندقيَّة فور أخذ القرار! ويرى المؤرِّخ الإنجليزي كولن إمبر Colin Imber أنَّ هذا القرار تأخَّر خمس سنواتٍ كاملة! إذا كان من المفترض أن يكون عام 1458م مع أوَّل دعوةٍ للبابا للحرب الصليبيَّة ضدَّ الدولة العثمانية[8]، ولعلَّنا نُدرك الآن مدى أهميَّة فتح البوسنة الذي دفع البندقيَّة إلى أخذ هذا القرار الصعب، وسرعة تنفيذه، مضحِّين بذلك بعشرات المصالح الاقتصاديَّة التي ستقف حال حربها مع العثمانيِّين. هذا كلُّه يعني أنَّه بعد فتح البوسنة تُرِكَت الجمهوريَّة بلا خياراتٍ متعدِّدة؛ إذ لم يكن أمامها إلَّا الحرب، وهذه هي قيمة فتح البوسنة في التاريخ!
لم يفعل البابا الآن إلَّا أنَّه أشعلَ فتيل البندقيَّة! وبعد هذه اللحظة ستكون البندقيَّة هي رأس الحربة الأوروبِّيَّة في قتال الدولة العثمانية! ستكون هي المحرِّكة للجيوش، والداعمة بالمال، والمتحرِّكة في الأوساط الدبلوماسيَّة، والباذلة لكلِّ غالٍ ونفيسٍ لحرب المسلمين. إنَّها بدايات الحرب الطويلة التي عُرِفت في التاريخ بحرب البندقيَّة الكبرى، التي ستستمرُّ ستَّة عشر عامًا كاملًا!
كانت البداية ساخنةً ومفاجئة! ويبدو أنَّ الدولة العثمانية لم تتوقَّع هذا الردَّ السريع من البندقيَّة؛ فقد فوجئت الحاميات العسكريَّة العثمانية في شبه جزيرة المورة بأسطول البنادقة يُباغتها على حين غِرَّةٍ في أكثر من موضع، وكان هذا في أوائل أغسطس 1463م، وما هي إلَّا أيَّامٌ واستطاع الأسطول البندقي أن يستردَّ مدينة أرجوس في 12 أغسطس، ولم يكتفِ بذلك؛ إنَّما انساح الجنود البنادقة في المورة، وسيطروا على عدَّة مدن جملةً واحدة، فسقطت في أيديهم ڤوستيتسا Vostitsa، وكاريتاينا Karytaina، وسانتوميري Santomeri، وچيراكي Geraki، بل تقدَّم البنادقة إلى الحائط العظيم الذي كان يحمي شبه جزيرة المورة، والمعروف بالهيكسامِليون Hexamilion وقاموا بإعادة بنائه وإصلاحه، وكان العثمانيُّون قد هدموه قبل ذلك ليمنعوا المقاومة البيزنطيَّة من استخدامه في صدِّ الهجمات العثمانيَّة، ثم حاصر البنادقة بعد ذلك قلعة أكروكورينث Acrocorinth، وهي من القلاع الاستراتيجيَّة المهمَّة جدًّا في شبه جزيرة المورة[9]!
لقد كانت عاصفةً بندقيَّةً شديدة!
نقلت بعض المصادر أنَّ عدد المدافع التي حملتها هذه القوَّة البندقيَّة زادت على ألفي مدفع[10]، وعلى الرغم من أنَّ هذه المدافع صغيرةٌ دون شَكٍّ حتى يتمكَّن البنادقة من نقلها بهذه السرعة إلى المورة فإنَّها كانت قوَّةً حربيَّةً لا يُستهان بها.
لم يكن هذا هو المسار الوحيد الذي سارت فيه جمهوريَّة البندقيَّة؛ إنَّما سلكوا مساراتٍ أخرى لا تقل خطورةً عن هذا المسار العسكري المباشر!
كان أحد هذه المسارات هو عقد اتِّفاقيَّة تعاونٍ مشتركٍ مع إسكندر بك الألباني، وكان هذا تطوُّرًا مفاجئًا في السياسة البندقيَّة؛ إذ إنَّها كانت على عداءٍ كبيرٍ مع إسكندر بك، أوَّلًا نتيجة الحروب التي دارت بينهما للخلاف على حدود كلٍّ منهما في شمال ألبانيا، وثانيًا لوقوف إسكندر بك إلى جانب مملكة نابولي عدوَّة البندقيَّة، ومع ذلك قَبِلَت البندقيَّة في 20 أغسطس 1463م أن تعقد اتِّفاقيَّةً مع عدوِّها إسكندر بك ضدَّ عدوِّهم الأكبر الدولة العثمانية، وكانت بنود المعاهدة تشمل إمداد البندقيَّة لإسكندر بك بالرجال والمال في حال تعرُّضه لهجومٍ عثماني، وتشمل كذلك سماح إسكندر بك للسفن البندقيَّة بالتواجد في المياه الألبانيَّة، وأيضًا تشمل إعطاء ابن إسكندر بك الجنسيَّة البندقيَّة ورفعه إلى درجة نبيل، وكذلك التعهُّد بإعطاء إسكندر بك حقَّ اللجوء إلى البندقيَّة في حال خروجه مضطرًّا من ألبانيا، وأخيرًا تتعهَّد البندقيَّة بإدخال ألبانيا في معاهدات السلام التي قد تتمُّ مستقبلًا مع الدولة العثمانيَّة[11].
كان هذا تطوُّرًا خطرًا في الأحداث! نعم لم يُعلن إسكندر بك الحرب بعد على الدولة العثمانية، ولم يُعلن بوضوح كسره للهدنة المعقودة بين ألبانيا والعثمانيِّين، لكنَّه عقد معاهدةً مع أعداء الدولة العثمانية المحاربين لها الآن، وهذا في حدِّ ذاته مخالفةٌ قانونيَّةٌ واضحة، وتمهيدٌ أكيدٌ لقطع الهدنة.
لم تكتفِ البندقيَّة بذلك إنَّما سعت للتعاون مع عدوٍّ آخر للدولة العثمانية!
في 12 سبتمبر 1463م عقدت البندقيَّة اتِّفاقيَّة دفاعٍ مشترك، بل تحالفٍ عسكريٍّ مباشر مع دولة المجر، مع حثِّ المجر بقوَّةٍ على التحرُّك إيجابيًّا في وقتٍ سريعٍ للهجوم البريِّ على الدولة العثمانية في البوسنة[12]. كانت الاتِّفاقيَّة محوريَّةً للغاية في تغيير مسار الأحداث في الوقت الراهن؛ إذ إنَّ ملك المجر ماتياس كان متردِّدًا جدًّا في المواجهة العسكريَّة المباشرة مع الجيش العثماني، وعندما سمع بتحرُّكات العثمانيِّين في البوسنة لم يفعل إلَّا أنَّه تحرَّك بجيشه جنوبًا من منطقة باتش Bač إلى منطقة فوتاك Futak[13]، وهذه المنطقة الأخيرة على بُعد أكثر من مائة كيلو متر من الأحداث في البوسنة، وهي شمال نهر الدانوب، وهذا يعني أنَّ الملك المجري لم يكن يعزم على دخول البوسنة؛ إنَّما فقط يُريد تأمين بلاده من احتمال غزوها من العثمانيِّين. كانت البندقيَّة تُريد من المجر أن تقوم بغزو العثمانيِّين في البوسنة في وقتٍ متزامنٍ مع العمليَّات العسكريَّة التي تقوم بها أساطيل البندقيَّة في اليونان؛ وذلك لتشتيت الجيش العثماني في جبهاتٍ مختلفة، ولذلك جاءت بنود المعاهدة مباشرةً وصريحة! لقد اتَّفق الطرفان على عدَّة بنودٍ كان منها التعاون المشترك مع بعضها البعض ضدَّ الأتراك، والأهمُّ من ذلك هو التحديد الفعلي لمسرح العمليَّات؛ فقد جاء في الاتِّفاقيَّة أنَّه على البندقيَّة أن تُجهِّز أربعين سفينةً عسكريَّةً من موانيها الموجودة بدالماسيا Dalmatia، وأن تستخدم كلَّ قوَّتها العسكريَّة البشريَّة في حرب العثمانيِّين في شبه جزيرة المورة اليونانيَّة، بينما يكون على المجر أن تتَّجه بجيوشها فورًا إلى البوسنة تحديدًا لكي تستعيد هذه المناطق، وتُجبر الجيش العثماني على توجيه بعض قوَّاته إلى هناك، فيكون عندئذٍ المسرح اليوناني مناسبًا لعمليَّات البندقيَّة العسكريَّة، ويُضاف إلى بنود الاتِّفاقيَّة أنَّه لا يجوز لأحد الطرفين -المجر أو البندقيَّة- أن يعقد سلامًا مع العثمانيِّين، أو حتى يُوقِف الحرب، إلَّا بالرجوع إلى الطرف الآخر وأخذ موافقته[14][15]. دَعَم البابا هذه المعاهدة بشدَّة، وأراد لملك المجر أن يتحمَّس أكثر لعقد الاتِّفاقيَّة مع البندقيَّة فوعد بتقديم معونةٍ ماليَّةٍ تكفي لرعاية ألف فارسٍ مجريٍّ لمدَّة سنةٍ كاملة، ومع أنَّ البندقيَّة لم تُقدِّم دعمًا ماليًّا للمجر في هذه المعاهدة، فإنَّها تداركت ذلك لاحقًا، ووعدت في يناير 1464م بتقديم ستين ألف دوكا ذهبيَّة للمجر كمعونةٍ على نفقات الحرب مع العثمانيِّين[16].
كان العرض مغريًا جدًّا لماتياس، خاصَّةً أنَّه يطمع في توسيع حدود مملكته إلى البوسنة؛ فالعمليَّات العسكريَّة لن تضرَّ فقط الدولة العثمانية، إنَّما ستُسهم في زيادة ملكه، فضلًا عن السمعة الأوروبِّيَّة التي يُمكن أن تفتح له آفاقًا جديدةً في علاقاته السياسيَّة، لهذا لم يتأخَّر ماتياس في الحركة، بل جهَّز جيشه فورًا، وعبر الدانوب في أواخر سبتمبر 1463م، أي بعد حوالي أسبوعين فقط من المعاهدة مع البندقيَّة[17]. جعل ماتياس وجهته إلى مدينة يايسي الحصينة، وهي مركزٌ مهمٌّ من مراكز الحامية العثمانيَّة، وتقع في شمال الوسط من البوسنة، وبالتالي فهي تُسيطر على معظم القطاع الشمالي من منطقة البوسنة، ولكي يضمن الملك المجري نجاح العمليَّة راسل ڤلاديسلاڤ ڤوكسيتش أمير دوقيَّة سانت ساڤا ليُساعده عسكريًّا على المهمَّة، فوافق الأمير على ذلك، وهو بذلك يُغيِّر ولاءه، وبالتبعيَّة ولاء أبيه استيبان ڤوكسيتش أمير الهرسك، من الدولة العثمانيَّة إلى المجر[18]، وكانت هذه خسارةً جديدةً للدولة العثمانية.
وصل ماتياس إلى مدينة يايسي، واستطاع بعد حصار أربعة أيَّامٍ فقط أن يُسْقِط المدينة لصالحه، ولكن الحامية العثمانية لجأت إلى القلعة ولم تستسلم، وكان هذا في أوائل أكتوبر 1463م[19].
وسَّع ماتياس عمليَّاته العسكريَّة في البوسنة، واستطاع إخضاع أكثر من ستِّين قلعةً ومدينةً في شمال البوسنة[20]، وأهدى عدَّة مقاطعات لأمير دوقيَّة سانت ساڤا ڤلاديسلاڤ ڤوكسيتش مكافأةً له على مساعدته العسكريَّة، وكانت هذه المقاطعات تشمل مدن جورني ڤاكوف أسكوبلي Gornje Vakuf-Uskoplje، وبروزر راما Prozor-Rama[21]، وهي مدن في غرب البوسنة بالقرب من دوقيَّة سانت ساڤا آنذاك.
لم تتوقَّف جهود البندقيَّة عند هذا المستوى، بل وسَّعت نطاق التحالفات الدبلوماسيَّة لتصل بها إلى زعماء بعيدين عن ساحة البلقان؛ ففي 19 أكتوبر 1463م استطاعت البندقيَّة أن تعقد تحالفًا -برعاية البابا- مع فيليب الطَّيِّب Philip the Good، وهو دوق بورجاندي الفرنسيَّة Burgundy، وهو من الشخصيَّات المرموقة جدًّا في أوروبا، وكان من العائلة المالكة الفرنسيَّة، وبالتالي فهو تابعٌ لملك فرنسا لويس الحادي عشر، ومع ذلك فقد عقد هذه المعاهدة بضغطٍ من البندقيَّة والبابا، وكانت اتِّفاقيَّة دفاعٍ مشتركٍ لمدَّة ثلاث سنوات، وفيها تعهَّد فيليب بدعم الحملات الصليبيَّة المرتقبة ضدَّ الدولة العثمانيَّة[22].
هكذا كان إعلان البندقيَّة للحرب على الدولة العثمانية آخر يوليو 1463م عاصفةً شديدةً حقَّقت عدَّة خسائر للدولة جملةً واحدة، ويُمكن حصر هذه الخسائر في النقاط التالية:
1. ضياع معظم شبه جزيرة المورة، بما فيها بعض المدن المهمَّة مثل أرجوس، وڤوستيتسا، وحصار قلعة أكروكورينث الاستراتيجيَّة.
2. إعادة بناء حائط الهيكسامِليون ممَّا يجعل اجتياح العثمانيِّين لشبه جزيرة المورة صعبًا.
3. خسارة شمال البوسنة كلِّه لصالح المجر.
4. حصار الحامية العثمانية في قلعة يايسي بالبوسنة، واحتمال تعرُّضهم للقتل في حال سقوط الحصن في يد المجريِّين.
5. تحويل دوقيَّة سانت ساڤا ودوقيَّة الهرسك ولاءهما إلى المجر بدلًا من الدولة العثمانية.
6. جلب أعداء جدد للدولة العثمانية، وذلك في صورة فيليب الطيب دوق بورجاندي الذي اتَّفق على تمويل الحملة الصليبيَّة ضدَّ العثمانيِّين.
7. إعادة إحياء الأمل عند البابا في إمكانيَّة إخراج حملةٍ صليبيَّةٍ جديدةٍ تجمع جيوش أوروبا ضدَّ الدولة العثمانية.
8. اتِّفاق إسكندر بك مع البنادقة على الرغم من تاريخهم العدائي الطويل، وهذا يُنذر بقرب خرق إسكندر بك للهدنة مع الدولة العثمانية.
كانت هذه عدَّة صدماتٍ متتاليةٍ تعرَّضت لها الدولة العثمانية في شهور أغسطس، وسبتمبر، وأكتوبر من عام 1463م، ولكنَّها في الواقع بعد هذه الصدامات المتتالية لم تقع؛ إنَّما عادت من جديد لتستعيد عافيتها، ولتأخذ خطواتٍ عمليَّةً في سبيل تدارك الموقف.
ماذا فعلت الدولة العثمانية؟!
كان اهتمام الفاتح الأوَّل هو استعادة زمام الأمور في اليونان، فخسائر البوسنة -على أهميَّتها- لا تُؤثِّر في كيان الدولة؛ لأنَّها -أوَّلًا- في أقصى غرب الدولة على حدودها، وثانيًا: لأنَّها لم تُفْتَح إلَّا حديثًا، وليس فيها ممتلكات أو أصول عثمانيَّة مهمَّة، لكنَّ اليونان تقع في عمق الدولة العثمانية، وبها الكثير من القلاع والحاميات والرعايا العثمانيِّين، وضياعها يُمثِّل خطورةً استراتيجيَّةً كبيرة، لذلك آثر الفاتح أن يُوَجِّه طاقته كلَّها إلى تحرير اليونان من قبضة البنادقة، أمَّا البوسنة؛ فمن ناحيةٍ واقعيَّة، لن يستطيع الفاتح إنقاذها في هذا العام؛ لأنَّ سقوط يايسي وشمال البوسنة في يد ماتياس كان في أكتوبر، وهذا يعني أنَّ استنقاذها سيحتاج عمليَّاتٍ عسكريَّةً في شهور الشتاء، وهذا مستحيلٌ على الجيش العثماني، خاصَّةً مع بُعْد المسافة عن أدرنة.
لهذه المعطيات أمر السلطان الفاتح واليه على تراقيا عمر بك بالتوجُّه بفرقةٍ سريعةٍ لإنقاذ القلعة الاستراتيجيَّة المحاصَرة في المورة، وهي قلعة أكروكورينث، وفي الوقت نفسه أمر الصدر الأعظم محمود أنچلوڤيتش بالتحرُّك بجيش الروملي مصحوبًا بخمسة عشر ألفًا من القوَّات غير النظاميَّة، وسوف يُعِدُّ الفاتح بنفسه جيشًا ثالثًا لتحقيق النجدة الكاملة لجيشي عمر بك، ومحمود أنچلوڤيتش[23].
وصل عمر بك في منتصف أكتوبر تقريبًا إلى المورة، وجعل وجهته قلعة أكروكورينث، وبعد مناوشات ومحاولات للهرب من المدفعيَّة البندقيَّة، استطاع عمر بك أن يلتقي مع جيش البندقيَّة في معركةٍ مفتوحةٍ حول القلعة الحصينة، وفي هذه الموقعة حقَّق الجيش العثماني نصرًا حاسمًا أدَّى إلى انسحاب الجيش البندقي بعد خسائر كبيرة، وكان من أكبر خسائره مقتل قائده بيرتولدو دي إيستي Bertoldo d'Este، وكانت هذه المعركة المهمَّة في يوم 20 أكتوبر 1463م[24].
لم يكن مقتل بيرتولدو دي إيستي أمرًا سهلًا على الجيش البندقي؛ فقد كان شخصيَّةً مهمَّةً لها وزنها في جمهوريَّة البندقيَّة، وكان خروجه على رأس الجيش البرِّي نوعًا من إبراز اهتمام البندقيَّة بالحرب مع الدولة العثمانية، ويُؤكِّد ذلك قيام الجمهوريَّة بعد ذلك بعمل جنازةٍ عسكريَّةٍ ضخمةٍ لهذا الفقيد في ڤينيسيا نفسها[25]، ويُمكن معرفة قيمة هذا القائد بمتابعة اللوحات الفنِّيَّة التي رُسِمَت في ڤينيسيا وإيطاليا تُصَوِّر حروبه في المورة[26].
حدث هذا النصر العثماني قبل قدوم جيش الصدر الأعظم محمود أنچلوڤيتش، الذي كان يسلك طريقًا آخر في طريقه إلى المورة، فأرسل عمر بك يُنبِّهه إلى عدم الاقتراب من حائط الهيكسامِليون إلَّا بعد اكتمال قوَّته وقدوم السلطان بالجيش الرئيس؛ وذلك لوجود جيش البندقيَّة الرئيس هناك ومعه مدفعيَّةٌ كثيرة[27]، وكانت التقديرات الأوَّليَّة لجيش البندقيَّة تُقدَّر بثلاثين ألف مقاتل[28]. جاءت هذه الرسالة إلى الصدر الأعظم في الوقت نفسه الذي أخبره فيه أحد عيونه أنَّ جيش البندقيَّة في حالةٍ مرهَقة، ولا يتوقَّع أن يرى جيشًا عثمانيًّا عند حائط الهيكسامِليون، ولذلك آثر الصدر الأعظم أن يتقدَّم بجيشه بسرعةٍ ليُباغت البنادقة وهم غير مستعدِّين للحرب[29].
وصل الصدر الأعظم محمود أنچلوڤيتش بجيشه إلى حائط الهيكسامِليون فوجد مفاجأةً سارَّةً في انتظاره! لقد رحل الجيش البندقي بسرعةٍ من المنطقة عبر عدَّة سفنٍ متَّجهًا إلى مدينة نوبليا جنوب أرجوس، وكان من الواضح أنَّ رحيلهم كان على عجل؛ لأنَّهم تركوا وراءهم كثيرًا من معدَّاتهم، وسِرُّ هذا الرحيل المفاجئ متعدِّد! فالجيش أُصيب بوباءٍ مفاجئٍ أدَّى إلى إصابة عددٍ كبيرٍ من جنوده بالإسهال الخطر[30]، وفي ظلِّ حدوث حالات هلاكٍ جماعية في حالة انتشار الطاعون، كانت الجيوش تُغادر بسرعة الأماكن التي تحدث فيها أوبئة خشية أن يكون طاعونًا مُعْدٍ، ويُضاف إلى هذا السبب، شعور الجيش بهزيمةٍ نفسيَّةٍ كبيرةٍ نتيجة هزيمة أكروكورينث، وأيضًا لمقتل قائده بيرتولدو دي إيستي[31].
وجد الصدر الأعظم محمود أنچلوڤيتش الطريق مفتوحًا، فاقتحم الهيكسامِليون، ثم دمَّره بمدفعيَّته[32]، ثم تقدَّم فورًا إلى أرجوس، فاستعادها من هجمةٍ واحدة[33]، ثم انطلقت قوَّاته في أنحاء المورة المختلفة، فاستعادها كلَّها تقريبًا قبل حلول الشتاء؛ أي تقريبًا في شهر نوفمبر 1463م، ولم يتبقَّ للبنادقة إلَّا المدن التي كانت معهم قبل اندلاع الحرب[34].
كان نجاح العثمانيِّين في هذه الجبهة اليونانيَّة عظيمًا، خاصَّةً أنَّ السلطان الفاتح لم يتمكَّن من اللِّحاق بالجيش العثماني لإصابته بنوبةٍ من نوبات النقرس المصحوبة بألمٍ شديد ممَّا تطلَّب البقاء في قصره[35]، وهكذا خسرت البندقيَّة كلَّ جهودها في هذه الجبهة.
في هذه الأثناء، وبينما كانت المعارك دائرةً في أرض اليونان، كان البابا بيوس الثاني منتشيًا بالتفوُّق البندقي الأوَّلي في اليونان، وبغزو ماتياس لشمال البوسنة، وباتِّفاق البنادقة مع إسكندر بك، ولم تكن قد وصلته بعد أنباء الانتصارات العثمانية الأخيرة في اليونان، ولهذا قام البابا في يوم 22 أكتوبر بإعلان الحرب الرسميَّة على الدولة العثمانية، وحدَّد مدينة أنكونا Ancona الإيطاليَّة على ساحل الأدرياتيكي مكانًا لتجمُّع الجيوش، بل أعلن أنَّه سيقود الحملة الصليبيَّة بنفسه[36]، وأعتقدُ أنَّ هذه هي المرَّة الأولى التي يعزم فيها أحد الباباوات على الخروج بنفسه في حملةٍ عسكريَّة، وكان من عادتهم أن يُرسلوا أحد كبار القساوسة مع الحملة، وقد فسَّر هو بنفسه السبب في عزمه على الخروج على رأس الحملة بأنَّ هذا سيدفع الأمراء الأوروبِّيِّين إلى الخجل من أنفسهم لكونهم يرون البابا يخرج بنفسه، على الرغم من اعتلال صحَّته، فسيدفعهم هذا إلى المشاركة حتمًا في الحملة[37].
بعد هذا الإعلان عقد البابا عدَّة اجتماعات مع سفراء الدول المشتركة في الحرب الآن، أعني مع سفراء المجر، والبندقيَّة، بالإضافة إلى ألبانيا، وكذلك أرسل عدَّة سفراء إلى أمراء المسلمين المتعاونين مع القوى النصرانيَّة، وتحديدًا أوزون حسن في إيران، وإبراهيم الثاني في قرمان، بالإضافة إلى خان تتار القرم، وكان مسلمًا يحكم المناطق الشماليَّة من البحر الأسود، وفي هذه الاجتماعات حدَّد البابا خطَّته، وأصدر وعوده للمشاركين في الحرب، وقد حرص على إعطاء كلِّ مشاركٍ نصيبًا من الأراضي العثمانية لتحميسه على إكمال الحرب إلى آخرها، فوعد البندقيَّة أن تأخذ شبه جزيرة المورة كلَّها، بالإضافة إلى أيَّة ممتلكاتٍ يونانيَّةٍ على البحر الأدرياتيكي، وسيأخذ إسكندر بك مقدونيا بالإضافة إلى ألبانيا، أمَّا المجر فستأخذ بلغاريا، وصربيا، والبوسنة، والإفلاق، وسيأخذ أمراء المسلمين الأناضول، أمَّا القسطنطينية وما حولها فستُعطى لأحد أفراد العائلة المالكة البيزنطيَّة، وذلك ليضمن مشاركة اليونانيِّين الذين يُفضِّلون قيادةً أرثوذكسيَّةً على قيادة الكاثوليك[38]!
كان المخطَّط طموحًا فوق العادة؛ فهو لا يهدف إلى مجرَّد إحداث هزيمةٍ بالدولة العثمانية، ولا إلى إخراجها من أوروبا فقط، بل يهدف إلى إقصائها من الوجود، فحتى المراكز الرئيسة للدولة العثمانية في الأناضول كانت ستذهب في هذه الخطَّة إلى الإيرانيِّين، والقرمانيِّين، وتتار القرم!
ومع ذلك فقد وصلت إلى روما وأوروبا أخبار الانتصارات العثمانية في شبه جزيرة المورة على البنادقة، وقلَّل هذا ولا شَكَّ من حماسة الأوروبِّيِّين للمشاركة في الحملة، ولكنَّه لم يُقلِّل من حماسة المستفيدين بشكلٍ مباشرٍ من الحرب مع الدولة العثمانية؛ فقد أعلن إسكندر بك بشكلٍ صريحٍ في نوفمبر 1463م أنَّه يقطع الهدنة بينه والدولة العثمانية، ويُعلن عليها الحرب، وذلك بعد ستَّة شهورٍ فقط من عقد الهدنة[39][40]. كذلك استمرَّ ماتياس ملك المجر في حصار يايسي، وفي تكريس عمليَّاته العسكريَّة في شمال البوسنة، وبعد شهرين ونصف تقريبًا من صمود الحامية العثمانيَّة داخل القلعة، قَبِلَت الحامية بعد نفاذ المؤن بالاستسلام دون قتالٍ في مقابل الأمان، وهكذا سقطت قلعة يايسي في يد ملك المجر في 16 ديسمبر 1463م[41]، وقد تحوَّلت يايسي مباشرةً إلى ولاية مجريَّة كبيرة تُدير معظم شمال البوسنة، واختار ماتياس لقيادة هذه الولاية أحدَ أهمِّ قيادات المجر، وهو إيمر زابوليا Imre Szapolayi، وهو أمير كرواتيا، ومن أحد أكبر عائلات النبلاء في المجر[42]، وسوف تستمرُّ هذه السيطرة المجريَّة على يايسي لمدَّة أربع وستين سنةً من هذا التاريخ؛ أي إلى سنة 1527م[43].
وأخيرًا، وقبل انقضاء عام 1463م، حدث أمرٌ إيجابيٌّ لصالح الدولة العثمانية؛ وهو ضغط الملك الفرنسي لويس الحادي عشر على فيليب الطيب دوق بورجاندي لمنعه من إرسال المعونة العسكريَّة التي وعد بها البابا، وذلك بسبب التهديدات الإنجليزيَّة لفرنسا، واعتماد ملك فرنسا على قوَّات بورجاندي في حال غزو إنجلترا لفرنسا، وقد رضخ فيليب الطيب لملك فرنسا ممَّا سبَّب حزنًا كبيرًا عند البابا، الذي كان على خلافٍ أصلًا مع لويس الحادي عشر[44]، ولكن البابا لم يذكر فيليب الطيب بسوء، بل على العكس من ذلك مدحه، وألقى اللوم على من منعوه من تنفيذ نواياه المقدَّسة، ولعلَّ هذه اللغة الهادئة مع فيليب الطيب هي التي دفعته إلى إرسال ثلاثة آلاف رجلٍ للحملة الصليبيَّة، وهو رقمٌ يسيرٌ بالقياس إلى ما كان مرجوًا منه، ولكنَّه فعل ذلك كنوعٍ من الموائمة بين إرضاء الغريمين؛ البابا وملك فرنسا[45]، وعمومًا كان هذا في صالح الدولة العثمانية؛ لأنَّ دخول فرنسا أو بورجاندي وحدها في معادلة الصراع كان سيُؤدِّي إلى نتائج سلبيَّة كبيرة نظرًا إلى قوَّة الفرنسيِّين في هذه المرحلة التاريخيَّة.
هكذا انتهى عام 1463م، وكان في المجمل إيجابيًّا للدولة العثمانية، وعلى الرغم من الصدمات التي حدثت في آخره، فقد استعادت الدولة العثمانية ما فُقِد منها في اليونان، وكانت لها اليد العليا على البندقيَّة في هذه المحطَّة من محطَّات الصراع، وكذلك بقيت في أيديها مناطق الوسط والجنوب من البوسنة، على الرغم من أنَّ فَقْدَها لشمال البوسنة كان أمرًا خطرًا يحتاج إلى ردِّ فعلٍ مناسب، خاصَّةً بعد انقضاء فصل الشتاء، وتوقُّع صداماتٍ جديدةٍ في ربيع العام المقبل بعد ذوبان الثلوج، وتحسُّن الطقس.
كان من الواضح أنَّ عام 1464م، وقد يكون العام الذي بعده، سيحمل صداماتٍ مع ثلاث قُوى مؤكَّدة؛ وهي: البندقيَّة، والمجر، وألبانيا. فهذه الدول ما زالت ملفَّاتها مفتوحةً على مصراعيها مع الدولة العثمانية، ولا بُدَّ للبندقيَّة أن تستكمل عمليَّاتها في اليونان، ولا بُدَّ للمجر أن تسعى لزيادة حصَّتها من أرض البوسنة، وكذلك لا بُدَّ لإسكندر بك أن يتحرَّك تجاه الدولة العثمانية بعد إعلانه الصريح لقطع الهدنة.
أمَّا البابا فحملته غير مؤكَّدة؛ لأنَّ حماسة الأوروبِّيِّين في مشاركته غير واضحة، ومع ذلك فقد أعلن البابا أنَّ صيف 1464م هو موعد حملته المرتقبة، والمتوقَّع أن تنطلق من أنكونا الإيطاليَّة[46].
كان الفاتح يتمنَّى من قلبه أن تُتاح له الفرصة أن يتوجَّه إلى البوسنة مرَّةً ثانيةً لكي يستعيد يايسي وشمال البوسنة، أو على الأقل ليمنع مزيدًا من التوغُّل المجري في داخل الأراضي البوسنيَّة، ولكنَّه في الوقت نفسه كان قلقًا من ترك منطقة اليونان تحت تهديد البنادقة، ولذلك فقد آثر ألَّا يتحرَّك في أوَّل الربيع إلى البوسنة، ولكن ينتظر ردَّ فعل البندقيَّة على هزائمهم العام الماضي.
وصدق حدسُ الفاتح!
لقد أتت أساطيل البندقيَّة فعلًا، ولكنَّها أتت في وقتٍ مبكِّرٍ عن توقُّعات العثمانيِّين؛ ففي أوائل أبريل من عام 1464م هجم البنادقة فجأةً على جزيرة ليمنوس، وقاموا بمساعدة بعض القراصنة اليونانيِّين باحتلالها بسرعة[47]، والواقع أنَّ جزيرة ليمنوس هي أهمُّ جزيرةٍ بالنسبة إلى الدولة العثمانية؛ لأنَّها تقع في مدخل مضيق الدردنيل مباشرة، وبالتالي فهي تتحكَّم في حركة الأساطيل المارَّة عبر المضيق، ويُمكن أن تُؤثِّر في خروج الأسطول العثماني أو دخوله في المضيق، كما أنَّها تُعَدُّ قاعدةً جيِّدةً جدًّا لمهاجمة إسطنبول العاصمة، وكانت ليمنوس تحت قيادة الأمير البيزنطي ديمتريوس بعد أن أعطاها له السلطان الفاتح عام 1460م على أن يدفع له الجزية السنويَّة عليها، ولهذا لم يكن بها قاعدةٌ عسكريَّةٌ عثمانيَّةٌ قويَّة، وأعتقدُ أنَّ هذا من أخطاء الدولة العثمانية؛ لأنَّه كان من المتوقَّع أن يهجم الأعداء أيًّا كانوا -البنادقة أم غيرهم- على هذه القاعدة العسكريَّة في أيِّ وقت.
في الشهر نفسه -أبريل 1464م- تحرَّك الأسطول البندقي جنوبًا صوب جزيرة ليسبوس، وضرب الحصار فور وصوله إليها حول عاصمتها ميتيليني Mytiliene[48]. كان من الواضح أنَّ البندقيَّة اختارت في هذه المرحلة من الصراع مع الدولة العثمانية أن تجعل البحر مسرح عمليَّاتها؛ فتجربتها مع الحروب البرِّيَّة في العام الماضي -عام 1463م- على أرض المورة اليونانيَّة لم تكن تجربةً ناجحة، وهي تمتلك أقوى أساطيل العالم بلا جدال، ولذلك كان من المنطقي أن تسحب الدولة العثمانية إلى هذا الميدان.
كانت جزيرة ليسبوس تُدار بشكلٍ مباشرٍ من الدولة العثمانية، وليست كجزيرة ليمنوس، وبالتالي فحاميتها العثمانية قويَّة، وقد استطاعت هذه الحامية أن تُقاوم الحصار البندقي لمدَّة ستَّة أسابيع متَّصلة[49]. في يوم 18 مايو ظهر الأسطول العثماني فجأةً قبالة شواطئ ليسبوس، وكان بقيادة الصدر الأعظم محمود أنچلوڤيتش، وقامت موقعة بحريَّة شرسة بين الطرفين، وفيها تعرَّض الأسطول البندقي لخسائر جسيمة، ممَّا اضطرَّ قائده أورساتو چيستنيانو Orsato Giustiniano إلى الانسحاب ورَفْع الحصار عن الجزيرة، وكان انسحابه إلى جزيرة نيجروبونتي المركز الرئيس للبنادقة في المنطقة[50].
ومع قوَّة النصر العثماني إلَّا أنَّ الأسطول البندقي لم ييأس من إعادة الكَرَّة، فعاود الهجوم على الجزيرة في شهر يونيو من السنة نفسها، بعد أقلَّ من شهرٍ من انسحابه، ولكنَّه هُزِم في المرَّة الثانية هزيمةً ساحقة، جعلته ينسحب إلى نيجروبونتي انسحابًا مخزيًا دفعه إلى عدم تكرار المحاولة لمدَّة عامين متتاليين[51]! ويبدو أنَّ الهزيمتين كانتا غير متوقَّعتين للقائد البندقي چيستنيانو، وكان يُعلِّق أمالًا كبيرةً على تحقيق شرفٍ له وللبندقيَّة، فلمَّا حدثت هذه الخسارة حزن حزنًا شديدًا، ثم مات بعد هذه الهزيمة الأخيرة بشهرٍ واحدٍ في نيجروبونتي، حتى إنَّ المؤرِّخ الإنجليزي ويليام ميلر William Miller يذكر أنَّ موته كان بسبب شدَّة حزنه، خاصَّةً أنَّه لم يتولَّ قيادة الأسطول البندقي إلَّا ثلاثة أشهرٍ فقط كانت فيهم هذه الخسائر الفادحة[52].
وعلى الرغم من هذه الخسارة البندقيَّة فإنَّ الدولة العثمانية لم تستطع استعادة جزيرة ليمنوس، بل ظلَّت في قبضة البنادقة، بل ستظلُّ البندقيَّة محتلَّةً لهذه الجزيرة إلى عام 1479م[53]، ويبدو أنَّ هذا كان بسبب مساعدة القراصنة اليونانيِّين، كما أنَّ السلطان الفاتح لم يُرِدْ أن يصرف وقتًا طويلًا في حصار ليمنوس حتى يتفرَّغ لمسألة البوسنة، ولذلك فبعد أن اطمئنَّ الفاتح إلى أنَّ البنادقة سيقنعون في هذه المرحلة -بعد هزائمهم المتتالية في ليسبوس- بمجرَّد البقاء في ليمنوس دون محاولة الهجوم على الأراضي العثمانية، قرَّر أن يجعل وجهته المباشرة هي البوسنة.
تحرَّك السلطان الفاتح بحملةٍ همايونيَّةٍ ضخمةٍ إلى البوسنة، ووصل إلى مدينة يايسي في العاشر من يوليو 1464م حيث ضرب الحصار على المدينة الحصينة، ومع أنَّ جيوشه قد أسقطت المدينة بسهولة قبل ذلك بعام عندما كانت في حوزة ملك البوسنة الراحل استيفين توماسيڤيتش، فإنَّ محاولة إسقاطها في هذه المرحلة -وهي تحت الحكم المجري- كانت صعبةً للغاية!
لقد ظلَّ الحصار شهرًا ونصف دون تحقيق نتيجةٍ تُذكر، ومِنْ ثَمَّ قرَّر الفاتح رفع الحصار في 24 أغسطس 1464م، خاصَّةً أنَّه قد سمع بقدوم جيشٍ مجريٍّ كبيرٍ بقيادة ماتياس نفسه، وقد يتمكَّن هذا الجيش من حصر محمد الفاتح في البوسنة، وضربه من الخلف، وكان انسحاب السلطان محمد الفاتح إلى مدينة صوفِيا في بلغاريا[54][55].
كان السلطان محمد الفاتح حزينًا لهذا الانسحاب، ولعدم التوفيق في استعادة يايسي مرَّةً ثانية، فكأنَّ الله قد أراد أن يُواسيه في هذه المحنة، وقد رأى جهده وإقدامه وتضحيَّاته، فقدَّم له هديَّتين ربَّانيَّتين في الفترة نفسها التي كان يُحاصر فيها قلعة يايسي؛ أي في شهر أغسطس 1464م!
كانت الهدية الأولى هي موت البابا بيوس الثاني في يوم 14 أغسطس! وكان البابا وصل إلى أنكونا في يوم 19 يوليو ليقود الحملة الصليبية بنفسه[56]، وكانت صحته معتلَّة بشكل كبير[57]، وزاد من ألمه وهمِّه أنه رأى الأسطول المجهَّز للحرب ضعيفًا ولا يبشِّر باحتمال النصر، وكان القرار قد اتُّخذ بأن يتوجَّه الأسطول إلى ألبانيا عبر الأدرياتيكي، ومنها ينتقل برًّا إلى المورة في اليونان[58]، ولكن أدرك البابا أن هذه الحملة لن تكون ناجحة في ظل التقاعس الأوروبي الكبير، وأخيرًا قضى البابا نحبه يوم 14 أغسطس، لتموت تمامًا أحلام إخراج الحملة، بل تمّ تسريح الجنود في الحال بعد تأكد موت البابا، وقبل أن يتم انتخاب بابا جديد[59]!
لم يكن موت بيوس الثاني أمرًا عاديًّا بالنسبة إلى الدولة العثمانيَّة؛ إذ إنَّ هذا البابا كان من أشدِّ المتحمِّسين لاستكمال مسيرة البابا الذي سبقه، وهو كاليكستوس الثالث Callixtus III، والذي كان من أكثر الباباوات حماسةً لتحريك حملاتٍ صليبيَّةٍ ضدَّ الدولة العثمانيَّة. أمَّا البابا الذي انتُخب بعد بيوس الثاني، وهو بول الثاني Paul II، فكان على النقيض من ذلك؛ إذ لم يكن راغبًا في إخراج مثل هذه الحملات؛ وكان منشغلًا بأمورٍ داخليَّةٍ في الڤاتيكان، بالإضافة إلى أمورٍ أخرى في إيطاليا وأوروبا، وقد استمرَّ هذا البابا الجديد في منصبه إلى موته عام 1471م[60]، ممَّا أراح الفاتح من هذا الجانب طوال هذه السبع سنوات.
أمَّا الهديَّة الثانية فكانت موت إبراهيم بك الثاني حاكم قرمان دائم التمرُّد، وكان هذا في 16 أغسطس 1464م[61]، ومع أنَّ الحرب الأهليَّة كانت لا تزال مستمرَّة في قرمان، وليس معلومًا من الذي سيتولَّى الأمور هناك بعد وفاة إبراهيم بك، الذي ظلَّ في كرسي الحكم أربعين سنةً كاملة (من 1424 إلى 1464م)، فإنَّ الفاتح استراح من هذا الرجل الذي طالما وضع يده في يد الصليبيين لحرب العثمانيين، والآن على الفاتح أن يدرس الوضع هناك جيدًا ليعلم ما يتوجب عليه فعله إزاء كرسي الحكم هناك.
لقد حدثت هاتان الوفيتان المهمتان في الوقت الذي كان يبذل فيه الفاتح جهده في حصار يايسي، وفي الوقت الذي كان يريد فيه أن يأتي الخير بسقوط يايسي في يده، أراد الله أن يأتي الخير من جانب آخر، بل كان الخير الذي أتى في السنوات القادمة نتيجة موت هذين الرجلين خيرًا أكبر بكثير من سقوط يايسي في يد العثمانيين في هذا التوقيت، وفي النهاية على العبد بذل الجهد، وليس عليه إدراك النتائج، ولكن تبقى القاعدة: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]، فالمطلوب هو الجهاد، أما السبيل الذي سيتيسر بعد ذلك للأمة فهذا بيد الله يختاره كيفما يريد سبحانه.
وعودة إلى الأحداث ..
لقد انسحب الفاتح إلى صوفِيا تجنُّبًا لجيش ماتياس، وهنا غيَّر الجيش المجري وِجْهَته من يايسي إلى مدينة زڤورنيك Zvornik، وهي مدينةٌ على بعد 80 كم شمال شرق سراييڤو على الحدود البوسنويَّة الصربيَّة، وهذا يعني أنَّه أراد التوغُّل في الأراضي البوسنويَّة ليُضيف إلى يايسي مناطق جديدة.
كان ردُّ فعل الفاتح سريعًا؛ إذ أرسل جيشًا كبيرًا بقيادة الصدر الأعظم محمود باشا، الذي حقَّق نصرًا باهرًا على الجيش المجري عند زڤورنيك في نوفمبر 1464م، ممَّا اضطر ملك المجر إلى الانسحاب بسرعة إلى الحدود المجريَّة بعد أن نجا من الموت بصعوبة[62][63]. كانت الهزيمة المجرية قاسية جدًّا، لدرجة أنها غطَّت على انتصارهم في يايسي بصورة كبيرة، وأدرك ملك المجر أنَّ دخوله الأراضي العثمانيَّة يحمل مخاطرةً كبيرة، فقرَّر -على الرغم من قوَّة جيشه- ألَّا يُكرِّر التجربة مرَّةً ثانية، على الأقلِّ في الزمن القريب، خاصَّةً أنَّ وفاة البابا بيوس الثاني، وولاية البابا الجديد بول الثاني غير المتحمِّس للحروب الصليبيَّة، قد أزعجت ملك المجر، الذي كان يُريد الدعم الكنسي، على الأقلِّ ماليًّا؛ لأنَّ جيشه الأسود كان يحتاج إلى كلفةٍ عاليةٍ للغاية.
أمَّا الفاتح فكان لا يرغب هو الآخر في إثارة المجر في هذه المرحلة، خاصَّةً أنَّ له سجالات ساخنة مع البندقية وألبانيا، ومن المحتمل أن يَلقَى مشكلات جديدة من أوزون حسن زعيم الآق قوينلو، خاصة بعد موت إبراهيم بك الثاني أمير قرمان.
تلاقت الرغبتان العثمانيَّة والمجريَّة، فهدأت الأمور جدًّا على الجبهة الشماليَّة للدولة العثمانيَّة، ولن يُسْمَع اسم المجر في قصَّة محمد الفاتح إلَّا بعد أكثر من عشر سنوات من هذا التوقيت، وتحديدًا سنة 1475م؛ عندما تدخل المجر كحليفٍ للبغدان ضدَّ السلطان محمد الفاتح.
هذا التجاور «السلمي» للقوَّتين العظيمتين كان من الأمور الغريبة التي دعت بعض المؤرِّخين إلى افتراض حدوث هدنةٍ رسميَّةٍ بين الفريقين[64]، ولكن تفاصيل هذه المعاهدة غير موجودةٍ في الواقع، ولكن المتابع لتاريخ ملك المجر ماتياس في هذه الفترة سيجده منشغلًا تمام الانشغال بقضاياه الأوروبيَّة الأخرى، وصراعاته الكبرى مع ممالك التشيك، وبوهيميا، والنمسا، ومولدوڤا. ولعلَّ هذا يُفسِّر إخراجه لملفِّ الدولة العثمانيَّة من حساباته، وكان هذا من لطف الله عزَّ وجل بالسلطان محمد الفاتح؛ حيث وجد الفرصة لإنهاء صراعاته الأخرى مع بقيَّة أعدائه بشكلٍ جيِّدٍ لم يكن ليتحقَّق لو أنَّه كان في صدامٍ مستمرٍّ مع المجريِّين.
وإذا كان هناك سلام غير معلن بين الدولة العثمانية والمجر بعد الأحداث الأخيرة فإن هذا السلام كان قد نُقِض تمامًا بين الدولة العثمانية وألبانيا بعد إعلان إسكندر بك نقض الهدنة وانضمامه إلى الحملة الصليبية! نعم كان خبر موت بيوس الثاني وتسريح جيش الحملة صادمًا لإسكندر بك، لكنه وجد أن الحرب في حقه صارت حتمية، ولذلك فقد أراد ألا يضيع فرصة انسحاب السلطان الفاتح إلى صوفِيا، وانشغال جيشه بقيادة الصدر الأعظم في قتال المجريين عند زڤورنيك، فقرر أن يغزو الدولة العثمانية!
اقتحم إسكندر بك إقليم مقدونيا، واصطدم بالحامية العثمانيَّة عند مدينة أوهريد Ohrid، وذلك في 14 أو 15 سبتمبر، وحقَّق نصرًا عليها، ويُبالغ المؤرِّخ الألباني المعاصر للأحداث ديمتريو فرانكو Demetrio Franco، فيذكر أنَّ الألبان قتلوا عشرة آلاف جندي عثماني من أصل 14 ألف جندي[65]، وهذا في الواقع غير منطقي؛ حيث إنَّ الألبان لم يقوموا باحتلال أوهريد المقدونيَّة العثمانيَّة بعد هذه المعركة بل انسحبوا إلى ألبانيا مرَّةً ثانية، ولو كانت الهزيمة بهذه القسوة لقاموا باحتلال المدينة، خاصَّةً أنَّ هدف الحملة الألبانيَّة أصلًا هو احتلال مقدونيا، والتوسُّع في الأراضي العثمانيَّة، آخذين في الاعتبار أنَّ إسكندر بك كان يعلم بانسحاب محمد الفاتح إلى صوفِيا تجنُّبًا لصدامٍ غير مرغوبٍ فيه مع ملك المجر، ممَّا يعني أنَّها كانت فرصة متاحة لإسكندر بك لاستكمال توغُّله في الأراضي العثمانيَّة، ممَّا يُوحي أنَّ النصر لم يكن بهذه الكيفية التي صوَّرها ديمتريو فرانكو، وهو على العموم معروفٌ بحبِّه الشديد لإسكندر بك، وتصويره إيَّاه في شكل البطل الأسطوري، ويُمكن -أيضًا- أن نستشفَّ أنَّ النصر لم يكن كبيرًا من عدد الأسرى العثمانيِّين الذين ذكرهم المصدر نفسه؛ حيث كانوا اثني عشر فقط، وقد دفع الفاتح فديةً لاستخلاصهم، فليس من المعقول أن يكون القتلى عشرة آلاف ويكون الأسرى اثني عشر فقط، كما أنَّ الفاتح لن يأخذ الأمر بهذه البساطة، ولا يكون له ردُّ فعلٍ مناسبٍ مع قتل هذا العدد الضخم.
لكن على كلِّ حالٍ كان النصر ألبانيًّا في هذه الموقعة، ولكن لم يكن حاسمًا؛ حيث لم تكن له آثارٌ في جغرافيَّة المنطقة، ولا حدود الدولة، وبقي الوضع كما هو عليه حتى عام 1465م.
في نفس الوقت الذي كانت تدور فيه هذه الأحداث في غرب الدولة العثمانية أرادت البندقية أن تجرَّب حظها من جديد في حرب بريَّة في المورة مستغلَّة انشغال الجيش العثماني الرئيس في جبهات البوسنة وألبانيا، فقام قائد القوات البرية البندقية في المورة سيجيسموندو مالاتيستا Sigismondo Malatesta بحصار مدينة ميسترا Mistra، وهي مدينة في وسط شبه جزيرة المورة، وذلك في شهري سبتمبر وأكتوبر 1464م، ولكن بعد قدوم جيش عمر بك والي تراقيا، ونشوب معركة مباشرة انهزم الجيش البندقي، وانسحب إلى قواعده، منهيًا أحداث هذا العام بهذه الهزيمة الكبيرة[66].
كان عام 1465م هادئًا بشكلٍ عامٍّ، وقد أسهمت في هدوئه أمور كثيرة؛ فموت البابا النشط بيوس الثاني، وحالة السلام غير الرسمية بين الدولة العثمانية والمجر، وهزائم البندقية في عام 1464م، وعدم رغبتها في خوض معارك جديدة إلا بعد الإعداد الكافي، كل هذه عوامل أدت إلى هدوء الحال في هذا العام، ومع ذلك لم يَخْلُ الأمر من حدوث بعض التوترات هنا وهناك، وكان أهم هذه التوترات في جبهتي ألبانيا وقرمان.
كانت تعديات إسكندر بك صارخة، فهو لم يأبه بالهدنة التي عقدها مع الفاتح، ولم يأبه كذلك بموت بيوس الثاني وتفرُّق حملته الصليبية، بل هجم على مقدونيا في العام الماضي، وهذا أرغم الفاتح على اتخاذ موقف إيجابي عسكري ضد ألبانيا بمجرد حلول الربيع، ولمَّا كان الفاتح غير مطمئن لترك عاصمة بلاده والتوجُّه بنفسه إلى منطقة ألبانيا البعيدة؛ وذلك لخطورة الجبهات المجريَّة واليونانيَّة، بالإضافة إلى عدم استقرار الوضع في إمارة قرمان، فقد آثر أن يُرسل جيشًا عثمانيًّا جديدًا دون أن يُشارك فيه، لكنَّه أخذ بعض القرارات التي يُمكن أن تُوفِّر للجيش فرصة نجاح؛ كان من هذه القرارات أن يجعل على رأس الجيش رجلًا ألبانيَّ الأصل، هو بالابان باديرا Ballaban Badera[67]، وهو قائدٌ عسكريٌّ محترفٌ نشأ في الإنكشارية العثمانيَّة، وهو مسلمٌ بالطبع، وذو فكرٍ حربيٍّ متقدِّم، وكان الغرض من اختياره ألبانيًّا أن يُحاول استمالة بعض نبلاء أو أفراد شعب ألبانيا، بالإضافة إلى معرفته باللغة الألبانيَّة، وسهولة تواصله مع العيون العثمانيَّة الألبانيَّة لإخباره بظروف وأحوال الأماكن التي سيدخلها هناك[68].
ولم يكتفِ الفاتح باختيار رجلٍ ألبانيٍّ على رأس الجيش؛ إنَّما عيَّنه واليًا على سنجق[69] أوهريد المقدوني[70]، وهو السنجق الأقرب إلى ألبانيا، وهو يهدف بذلك إلى توسيع صلاحيَّات بالابان حتى يُمكنه من استغلال كلِّ إمكانات السنجق دون الحاجة إلى الرجوع إلى قائدٍ آخر، كما أنَّ هذه الولاية ستجعله على درايةٍ أكبر بأحوال المنطقة كلِّها، وهذا سيصبُّ بطبيعة الحال في مصلحة الخطط التي يضعها بالابان في حربه في ألبانيا.
اخترق بالابان الحدود الألبانيَّة في أبريل 1465م، واصطدم بجيش إسكندر بك في سهل ڤايكال Vaikal، في مقاطعة ديبار Dibar شمال شرق ألبانيا، وكانت موقعةً شرسةً للغاية، يُمكن أن تُعَدُّ سجالًا؛ حيث خسر الفريقان عددًا كبيرًا من جنودهما، ولم تكن لها نتيجةٌ حاسمة، وإن كانت الكفَّة تميل نسبيًّا لصالح الألبان[71].
بعد هذه الموقعة تكرَّرت محاولات بالابان ثلاث مرَّات، وحاول اختراق التحصينات الألبانيَّة في ميـچاد Meçad، ثم في سهل ڤايكال مرَّةً ثانية، ثم أخيرًا في كاشاري Kashari، لكنَّه للأسف فشل في كلِّ محاولاته، على الرغم من الإمدادات الكبيرة التي أرسلها له الفاتح، خاصَّةً في حملته الأخيرة، وكانت هناك خسائر جسيمة أدَّت إلى توقُّف المحاولات في هذه المرحلة. كانت هذه المعارك في صيف 1465م، في شهري يوليو وأغسطس، ولن يتمكَّن الفاتح من إعادة الكَرَّة إلَّا في صيف العام القادم؛ أي في يونيو 1466م[72][73].
هكذا ظلَّ الوضع على ما هو عليه في ألبانيا، وأصبح على الفاتح أن ينتهج سياسةً أخرى أكثر حسمًا لإنهاء المشكلة الألبانيَّة.
أما على جبهة قرمان فقد كان موت أميرها إبراهيم بك إيذانًا ببدء سلسلةٍ من الاضطرابات الأهليَّة التي أدَّت إلى تسارع الأحداث، ولم يكن الفاتح بمنأى عن القصَّة؛ إذ تُمثِّل قرمان الحدود الشرقيَّة للدولة العثمانيَّة، وهي حدٌّ فاصلٌ بينه وبين الإيرانيين بزعامة أوزون حسن، كما أنَّ قرمان إمارةٌ تابعةٌ للعثمانيِّين منذ أيَّام بايزيد الأول، وتحديدًا منذ عام 1397م، وينبغي ألَّا تأخذ قرارات سياسيَّة ذات تأثيرٍ دون الرجوع إلى سلطان الدولة العثمانيَّة.
كان الصراع على كرسي الحكم بعد موت إبراهيم بك على أشدِّه بين الأخوين إسحاق وأحمد، ولكي يُثبِّت إسحاق أقدامه لجأ إلى زعيم الآق قوينلو أوزون حسن، وهو المعروف بعدائه للدولة العثمانيَّة، وصاحب العلاقات القويَّة مع الدول الصليبيَّة المحاربة للعثمانيِّين، وقد دعمه أوزون بالفعل ممَّا جعله يتسلَّم مقاليد الحكم على الرغم من عدم تبعيَّة أخيه أحمد له[74][75][76].
لجأ أحمد إلى السلطان محمد الفاتح الذي لم يتردَّد في تجهيز جيشٍ لمساعدته، وتمكَّن هذا الجيش في عام 1465م من الانتصار على إسحاق الذي هرب إلى جنوب قرمان، وتولَّى أحمد زعامة الإمارة تابعًا للسلطان محمد الفاتح، وكانت هذه المساعدة في مقابل جزءٍ من الأراضي القرمانيَّة، بالإضافة إلى الضريبة السنويَّة المعتادة، فضلًا عن التبعيَّة السياسيَّة[77].
أخيرًا يلفت الأنظار في أحداث هذه الفترة أحد الإجراءات الذكيَّة التي فعلها الفاتح؛ حيث أعطى جمهوريَّة فلورنسا الإيطالية عدَّة صلاحيَّات تجاريَّة مهمَّة في الدولة العثمانيَّة[78]، وكانت هذه الجمهوريَّة هي المنافس الحالي لجمهوريَّة البندقية في إيطاليا، خاصَّةً بعد التدهور السياسي والعسكري الذي كانت تُعاني منه جمهوريَّة چنوة، وهي المنافس التقليدي للبندقيَّة في هذه المرحلة التاريخيَّة، وكان الفاتح يهدف من وراء هذا التعاون تقوية الجانب الفلورنسي في مواجهة البنادقة، ممَّا سيُضعف البنادقة بلا جدال، كما أنَّه يكون قد وضع قدمًا -ولو بشكلٍ دبلوماسي- في إيطاليا، ولا شَكَّ أنَّ تجار فلورنسا ودبلوماسيِّيها سينقلون بعض أخبار البنادقة، التي قد تكون في منتهى الأهميَّة بالنسبة إلى الفاتح في هذه المرحلة. ولقد وصل الأمر إلى قيام القنصل الفلورنسي لدى الدولة العثمانية، وهو ميناردو أوبالديني Minardo Obaldini، بتزويد الفاتح بمعلومات مهمة عن جمهورية البندقية وخططها المستقبلية تجاه الدولة العثمانية[79]!
هكذا يمكن اعتبار كل التداعيات التي حدثت في العامين السابقين؛ أعني 1464م، و1465م، نتيجة مباشرة لإعلان البندقية الحرب على الدولة العثمانية في عام 1463م، وهو الوضع الذي سيستمر طويلًا في قصة الفاتح، ولكن بشكلٍ عامٍّ فإن الأمور كانت تسير في صالح الدولة العثمانية، وفي المجمل فإن نجاحاتها في البوسنة، واليونان، وبحر إيجة، وقرمان، كانت أكبر من خسائرها في البوسنة وألبانيا، وهذا –ولا شك- دعم الروح الايجابية عند السلطان وجيشه، وكذلك عند الشعب بصفة عامة[80].
[1] Prlender Ivica An Eastern Adriatic Merchant Republic (Dubrovnik): Facing the Temptations of the Crusades [Book Section] // The Crusades and the Military Orders: Expanding the Frontiers of Medieva Latin Christianity. / book auth. Laszlovszky Jόzsef and Hunyadi Zsolt. - Budapest, Hungary : Central European University Press, 2001, p. 169.
[2] O’Brien Emily The 'Commentaries' of Pope Pius II (1458-1464) and the Crisis of the Fifteenth-Century Papacy [Book]. - Toronto, Canada : University of Toronto Press, 2015, pp. 109-111.
[3] Housley Norman The Crusade in the Fifteenth Century: Converging and competing cultures [Book]. - London, UK : Routledge, 2016, p. 157.
[4] Smith William A Dictionary of Greek and Roman Biography and Mythology [Book]. - London, UK : John Murray, 1880, vol. 2, p. 589.
[5] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976, vol. 2, p. 247.
[6] Setton, 1976, vol. 2, p. 240.
[7] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009, p. 76.
[8] Imber Colin The Ottoman Empire, (1300-1481) [Book]. - Istanbul : Isis Press,, 1990, p. 185.
[9] Pitcher Donald Edgar An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate [Book]. - Leiden : E. J. Brill, 1973, p. 87.
[10] Setton, 1976, vol. 2, p. 248.
[11] Noli Fan Stilian George Castrioti Scanderbeg (1405–1468) [Book]. - New York, USA : International Universities Press, 1947, p. 66.
[12] Shaw Stanford Jay and Shaw Ezel Kural History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis - The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808 [Book]. - [s.l.] : Cambridge University Press., vol. 1, 1976, p. 65.
[13] Pálosfalvi Tamás From Nicopolis to Mohács: A History of Ottoman-Hungarian Warfare, 1389 -1526 [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill, 2018, p. 207.
[14] Thallóczy Ludwig [Jajce (Banate, fort and city) history 1450–1527] Jajcza (bánság, vár és város) története 1450–1527 (in Hungarian) [Book]. - Budapest, Hungary : Hornyánszky Viktor cs. és kir. udv. könyvnyomdája Históriaantik Könyvesház Kiadó, 1915, p. 93.
[15] Pálosfalvi, 2018, p. 209.
[16] Bánlaky József Az 1463. évi délvidéki és boszniai hadjárat. Az ugyanezen évi tolnai országgyűlés határozatai.» [The campaign of 1463 in Bosnia. The measures of the diet of Tolna in the same year.]. A magyar nemzet hadtörténelme [Book]. - [s.l.] : Grill Károly Könyvkiadó vállalata, 1929, pp. 56-57.
[17] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978, p. 229.
[18] Thallóczy Ludwig [Jajce (Banate, fort and city) history 1450–1527] Jajcza (bánság, vár és város) története 1450–1527 (in Hungarian) [Book]. - Budapest, Hungary : Hornyánszky Viktor cs. és kir. udv. könyvnyomdája Históriaantik Könyvesház Kiadó, 1915, p. 95.
[19] Setton, 1976, vol. 2, p. 250.
[20] Babinger, 1978, p. 229.
[21] Thallóczy, 1915, p. 103.
[22] Setton, 1976, vol. 2, p. 249.
[23] Stavrides Theoharis The Sultan of vezirs : the life and times of the Ottoman Grand Vezir Mahmud Pasha Angelovic (1453-1474) [Book]. - Leiden : Brill Academic Publishers, Inc, 2001, p. 151.
[24] Setton, 1976, vol. 2, p. 248.
[25] Mallett Michael E. and Hale John Rigby The Military Organisation of a Renaissance State: Venice C.1400 to 1617 [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press., 2006, pp. 142-143.
[26] Cavalcaselle Giovanni Battista and Crowe Joseph Archer A History of Painting in North Italy [Book]. - London, UK : John Murray., 1871, vol. 1, p. 116.
[27] Setton, 1976, vol. 2, p. 248.
[28] Dyer Thomas Henry The history of modern Europe: from the fall of Constantinople in 1453, to the war in the Crimea in 1857 [Book]. - London, UK : J. Murray, 1861, 1861, vol. 1, p. 94.
[29] Setton, 1976, vol. 2, p. 248.
[30] Babinger, 1978, p. 228.
[31] Setton, 1976, vol. 2, p. 249.
[32] Stavrides, 2001, p. 153.
[33] Babinger, 1978, p. 228.
[34] Setton, 1976, vol. 2, p. 249.
[35] Freely, 2009, p. 77.
[36] Tyeman Christopher God's War: A New History of the Crusades [Book]. - Cambridge, MA, USA : The Belknap Press of Harvard University Press, 2006, p. 871.
[37] Bower Archibald The History of the Popes [Book]. - London, UK : Printed by author, 1766, vol. 7, p. 292.
[38] Shaw, et al., 1976, vol. 1, p. 65.
[39] Minahan James B. One Europe, Many Nations: A Historical Dictionary of European National Groups [Book]. - Westport, CT, USA : Greenwood Press, 2000, p. 31.
[40] Elsie Robert Historical Dictionary of Albania [Book]. - [s.l.] : The Scarecrow Press, 2010, p. 401.
[41] Babinger, 1978, p. 229.
[42] Pálosfalvi, 2018, p. 213.
[43] McCarthy Katherine Bosnia - Hercegovina [Book Section] // Eastern Europe: An Introduction to the People Lands and Culture / book auth. Frucht Richard. - Santa Barbara, CA, USA : ABC CLIO, 2005, vol. 3, p. 633.
[44] Vaughan Richard Philip the Good: The Apogee of Burgundy [Book]. - Woodbridge, UK : The Boydell Press, 2002, vol. 3, p. 370.
[45] Tyeman Christopher God's War: A New History of the Crusades [Book]. - Cambridge, MA, USA : The Belknap Press of Harvard University Press,, 2006, p. 871.
[46] Kelly John Norman Davidson The Oxford Dictionary of Popes [Book]. - New York, USA : Oxford University Press, 1986, pp. 250-251.
[47] Miller William Essays on the Latin Orient [Book]. - [s.l.] : Cambridge University Press, 1921, p. 350.
[48] Babinger, 1978, p. 236.
[49] Miller, 1921, p. 350.
[50] Babinger, 1978, p. 236.
[51] Setton, 1976, vol. 2, p. 251.
[52] Miller, 1921, p. 350.
[53] Panaite Viorel The Ottoman Law of War and Peace: The Ottoman Empire and Tribute Payers [Book]. - [s.l.] : East European Monographs, 2000, p. 153.
[54] Hunyadi, et al., 2001, p. 182.
[55] Setton, 1976, vol. 2, p. 250.
[56] Kelly, 1986, p. 251.
[57] Bower, 1766, vol. 7, p. 293.
[58] Setton, 1976, vol. 2, p. 268.
[59] Noli, 1947, p. 67.
[60] O'Malley John W A History of the Popes: From Peter to the Present [Book]. - [s.l.] : Lanham, Md. : Sheed & Ward, 2010, p. 173.
[61] يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/153.
[62] أوزتونا، 1988م صفحة 1/158.
[63] Babinger, 1978, p. 232.
[64] Engel Pál The Realm of St Stephen: A History of Medieval Hungary, 895–1526 [Book]. - London, UK : I.B. Tauris Publishers, 2001, p. 307.
[65] Franco Demetrio Comentario de le cose de' Turchi, et del S. Georgio Scanderbeg, principe d' Epyr [Book]. - Venice : Altobello Salkato, 1480, pp. 335-337.
[66] Setton, 1976, vol. 2, pp. 252-253.
[67] İnalcık Halil İskender beg [Book Section] // The Encyclopaedia of Islam / book auth. van Donzel E. [et al.]. - Leiden : E.J. Brill,, 1997, vol. 4, p. 140.
[68] Ludlow James Meeker The Captain of the Janizaries: A Story of the Times of Scanderbeg and the Fall of Constantinople [Book]. - New York : Harper & Brothers, 1893, pp. 134-135.
[69] سنجق: قسم إداري من أقسام الدولة العثمانية، وكانت الأقسام الإدارية ترتب على هذا النحو: ناحية (أي بلدة)، قضاء، سنجق، ولاية. وكان اللواء وهو السنجق يشمل من خمسة إلى عشرة قضاءات (أو أقضية). صابان، 2000م صفحة 136.
[70] İnalcık, 1995, p. 88.
[71] Franco, 1480, p. 338.
[72] Francione Gennaro Skënderbeu, një hero modern : (Hero multimedial) [Skanderbeg, a modern hero (Hero multimedia)] (in Albanian) [Book] / ed. Aliaj Donika and Aliaj Tasim. - Tiranë, Albania : Naim Frashëri,, 2003, p. 176.
[73] Franco, 1480, p. 341.
[74] الملطيّ: نيل الأمل في ذيل الدول، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري- بيروت، لبنان : المكتبة العصرية للطباعة والنشر، ، 2002م صفحة 6/217.
[75] ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهور المترجمون محمد مصطفى. - فيسبادن : فرانز شتاينر، 1975م صفحة 2/430.
[76] Yüce Yaşar and Sevim Ali Türkiye tarihi Cilt I [Book]. - İstanbul : AKDTYKTTK Yayınları., 1991, pp. 256-257.
[77] فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، المترجمون تحقيق: إحسان حقي- بيروت، لبنان: دار النفائس، 1981م صفحة 172.
[78] أوزتونا، 1988م صفحة 1/158.
[79] هايد: تاريخ التجارة في الشرق الأدنى في العصور الوسطى، المترجمون أحمد رضا محمد رضا. - القاهرة - مصر : الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م صفحة 3/203.
[80] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 1/ 439- 458.
التعليقات
إرسال تعليقك